الخالدون المنسيون.
محمد العيطة.
هدف هذه السلسلة الرئيسي هو التطرق إلى جوانب وشذرات من حياة أشخاص عرفتهم وعايشتهم في أحلك الظروف وأصعب التجارب والمحن فأبانوا عن جوهر إنساني خالص تمتزج فيه مشاهد ومواقف الرجولة والبطولة والصمود.
كثير من هؤلاء الرجال رحلوا عن دنيانا، قضوا نحبهم و لم يبدلوا تبديلا. وما يحز في النفس حقا ليست تضحياتهم ولا عطاءهم فقد قدموا أرواحهم عن قناعة راسحة، لكن ما يحز في النفس حقا هو أنهم رحلوا في صمت وقد طواهم وطوى ذكراهم النسيان.
أنا هنا في هذه السلسلة لا أريد فتح جراح حرب الأشقاء، فذلك لم يخطر في بالي أبدا. فرغم أن آثار تلك الحرب الجائرة لا تزال غائرة في الروح قبل الجسد، إلا أننا نحن أسرى الحرب الصحراويون في السجون الموريتانية تسامينا على جراحنا وعلى ظلم ذوي القربى ونشترك جميعا في التطلع إلى ما يجمعنا بإخوتنا الموريتانيين، مقدمين أواصر الأخوة والدم والمستقبل المشترك على تجاربنا الذاتية على مرارتها.
ويبقى الهدف الحقيقي من هذه الكتابات هو التذكير كل مرة أن هدفي من هذه الكتابات هو إنصاف رجال عرفتهم و عرفت فيهم مناقب العظماء وشيم الكبار، رجال قدموا أغلى ما يملكون؛ الروح الزكية على مذبح الحرية. لا أريد أن نكون ظهيرا للنسيان في طمر ذِكرهم و ذِكراهم.
والله من وراء القصد.
هذه المرة سأتحدث عن الشهيد:
- محمد/حماد/عبدالقادر معروف ب :(محمد العيطة).
- إسم الأم:خديجتو/أبّاأعلي/بادي
-تاريخ الميلاد: بداية خمسينات القرن الماضي.
-المكان: تشلة.
بعد إستكمال محمد ولد حماد التعليم الإبتدائي في مدارس المستدمر، وبعد أن حفظ ما تيسر له من القرآن. اختاره المرحوم بإذن الله شيخاتو، عمدة مدينة لگويرة لتلقي تكوين في التمريض في مستشفى المدينة. وقد أمضى مدة غير يسيرة في التربص والتكوين وتمريض مرضى المستشفى دون أجر. ولما بلغ الثامنة عشر من العمر أجرى امتحان القبول كممرض و تخرج بنقطة جيدة مكنته من الدخول مباشرة كممرض مُمارس.
بعد مباشرة عمله في المستشفى هالته الممارسات التمييزية ضد الصحراويين والتي تمارسها إدارة المستدمر الإسباني. وجاهر برفض تلك الممارسات وهو ما جلب عليه نقمة الإدارة الإسبانية. وكان قد وضع نصب عينيه فتح صيدلية لتأكيد استقلاليته وحرصا على تقديم خدمات لمواطنيه وبيع الدواء بأسعار في متناول مواطنيه. وظل على مواقفه المعارضة للإدارة الإستعمارية وممارساتها. وفي النهاية وجد نفسه في مواجهة مع حاكم المدينة الإسباني الذي كال له الاتهامات وضيّق عليه في رزقه. وكانت تهم الإخلال بالنظام العام وتحريض السكان للخروج على القانون والنظام تهما جاهزة ضد محمد العيطة.
وظل محمد في صراع مع الإدارة الإسبانية ما سبب له في نفهيه بعيدا، إلى بلدة المحبس في الشمال الشرقي من الوطن. و بقى هناك بعيدا عن مدينته التي أحبها و أحب أهلها لگويرة مدة خمس سنوات كاملة. ولم يعد إلى مدينته إلا بعد تدخلات عديدة من بعض أعيان المدينة لدى الإدارة الإستعمارية. وأخيرا سمح له بالعودة إلى لگويرة و بقي هناك يعمل في المستشفى وفي صيدليته حتى آخر يوم قبل جلاء قوات و مستوطني المستدمر من المدينة.
بقي محمد العيطة يعمل في مستشفى المدينة وظلت صيدليته تحت تصرف المواطنين و الثوار الذين دخلوا المدينة لإعمارها . ولما هاجمت القوات الغازية الداداهي المدينة انضم محمد العيطة إلى صفوف المقاومة ممرضا، وكان محمد العيطة يتعامل مع الثوار الجرحى بحرفية عالية لا يملكها إلا طبيب جراح. وأذكر أنه قام بعمليات جراحية معقدة، منها بتر يد أحد المقاتلين وتضميد جراحه التي كانت تنزف وأنقذه من موت محقق. كما قام بخياطة فم وفك مقاتل آخر كان قد أصيب في فمه وتدلى فكه. وعمليات جراحية أخرى كلها قام بها في الميدان بإمكانيات طبية محدودة ولكن بشجاعة وحرفية يحسده عليها كبار الأطباء.
وبعد أن نفد رصاص الثوار المقاومين وسقطت مدينة لگويرة، وقع محمد/العيطة في الأسر إلى جانب الثوار وأهالي المدينة في 19 ديسمبر 1975. وتم نقلنا جميعا إلى مدينة انواذيبو. حيث كانت "القاعدة البحرية" مكانا لسجننا.
والسجن عبارة عن صالة كبيرة قذرة متسخة تفوح منها الروائح الكريهة من عرق وبراز وفضلات.
تعرض محمد/ العيطة في هذا السجن لصنوف من العذاب يستحيل وصفها، كان أخفها الجلد والضرب المبرح. وكان الجلادون يطفئون في جسده العاري سجائرهم في حنق وغضب ويصرخون في وجهه: "لماذا أنقذت هؤلاء الجرحى؟ لقد كان موتهم محققا؟" "استنجد بهم الآن علّهم ينقذوك من الموت تعذيبا"!. أظهر الجنود الموريتانيين غضبا شديدا على ولد العيطة بسبب دوره في إنقاذ الجرحى من الثوار. لكن، وأمام دهشة كل رفاقه المقاتلين، أظهر محمد من الشجاعة وقوة التحمل ما لا يمكن وصفه. فقد عجز جلادوه أن يكسروا فيه قوة الشكيمة والصبر. فالرجل الذي كان ينتظر منه جلادوه صرخات استعطاف أو تذلل بسبب شدة العذاب، لم تصدر منه صرخة ألم واحدة. وكان ذلك مثار عجبنا وإعجابنا به.
ظل في الأسر 10 أيام فقط، لكنها كانت بمثابة دهر من العذاب. ذاق فيها محمد /العيطة من صنوف العذاب في تلك المدة القصيرة ما لم يذقه أي أسير آخر.
أُطلق سراحه وسرعان ما التحق بمخيمات اللاجئين حيث تم توجيهه للعمل في القطاع الصحي. وظل يعمل متطوعا بتفاني وإخلاص ونكران للذات حتى وافاه الأجل المحتوم وما بدل تبديلا.
رحم الله الشهيد محمد العيطة وجزاه الله عن شعبنا خير الجزاء.
ويظل عيب الدار على من بقي في الدار.
النخ بدة. ✍️
تعليقات
إرسال تعليق