السياسة بين الفكر الإستراتيجي والتجربة الصحراوية
السياسة ليست مجرد إدارة يومية للشأن العام أو تسييرٍ إداري للدولة، بل هي ـ كما وصفها الفيلسوف الألماني أرنست هيجل ـ “علم الأحياء التطبيقي”. وكما أن علم الأحياء يدرس البيئة الطبيعية للكائنات الحية من أجل فهم مسار تطورها وقدرتها على التكيّف، فإن السياسة تقتضي فهماً عميقاً للبيئة الداخلية والخارجية التي تتحرك داخلها الدول والشعوب، بما يحمله ذلك من تحديات وفرص ومخاطر.
الفكر الإستراتيجي عند القادة لا يقوم على ردود الفعل السطحية، وإنما على تشخيص الظواهر السياسية والاجتماعية في محيطهم، واستبصار اتجاهاتها المستقبلية، ثم تحويل هذه المعرفة إلى خطط قادرة على حماية الدولة وضمان استقرارها.
التجربة الصحراوية
إذا أسقطنا هذا الفهم على التجربة الصحراوية، نجد أن واقع الصحراء بظروفها المناخية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة قد شكّل بيئة سياسية تستدعي وعياً إستراتيجياً من قادة الحركات السياسية. فالمجتمع الصحراوي مجتمع ذو خصوصية واضحة: قلة الموارد، اتساع الجغرافيا، هشاشة البنية الاقتصادية، وتعقيدات الانتماءات القبلية.
إن التعامل مع هذا الواقع يتطلب قراءة تشبه قراءة عالم الأحياء لمجاله: أي فهم العلاقات بين مكونات البيئة الصحراوية (القبيلة، الجغرافيا، الموارد، الامتداد الإقليمي)، ومن ثم إدماج هذا الفهم في الرؤية السياسية. فمثلاً، غياب الموارد الطبيعية الكافية لا ينبغي أن يكون سبباً في العجز، بل قد يُحوَّل إلى عنصر دفع لبناء إستراتيجيات قائمة على التحالفات.
كما أن التنوع القبلي في الصحراء قد يشكّل ـ من منظور بن غوريون ـ نقطة ضعف يمكن للخصوم استغلالها لإشعال التوترات الداخلية. لكن من منظور وطني إستراتيجي، يمكن تحويل هذا التنوع إلى مصدر قوة إذا تمّت إدارته بعقلانية سياسية تقوم على الدمج والمشاركة والعدالة. وهنا تبرز أهمية الفكر السياسي الواعي الذي لا يرى في الاختلاف خطراً، بل رصيداً يمكن استثماره.
وفي هذه المرحلة بالذات، يصبح لزاماً على القيادة الصحراوية أن تدرك أولوياتها الإستراتيجية، وفي مقدمتها: تطوير القدرات التقنية للجيش الشعبي الصحراوي، باعتباره الضامن الأول للأمن والدفاع، إضافة إلى البحث عن مصادر تمويل فعّالة ومستدامة يمكن أن تمنح التجربة الصحراوية ميداناً أوسع للحركة والمناورة. فبناء القوة لا يتحقق فقط بالوعي السياسي، وإنما أيضاً بامتلاك أدوات حديثة تواكب طبيعة التحديات الراهنة.
إن التجربة الصحراوية تكشف بوضوح أن السياسة ليست مجرد شعارات أو ردود أفعال، وإنما هي علم وفنّ لإدارة التحديات ضمن بيئة معقّدة. فإذا كان هيجل قد ربط السياسة بعلم الأحياء، فإن الواقع الصحراوي يؤكد هذا التشبيه: فكما تحتاج الكائنات إلى التكيّف للبقاء، تحتاج الشعوب إلى إستراتيجيات واقعية للبقاء والتطور. ومن هنا، يصبح امتلاك القادة لوعي إستراتيجي يُحسن قراءة نقاط القوة والضعف في بيئتهم الداخلية والخارجية، مع تحديد أولويات المرحلة، شرطاً لا غنى عنه لفرض الاستقلال التام، لأن المسار التاريخي يقول لنا إن النصر والاستقلال يجب أن نصنعه نحن، لا أن ننتظره ليأتينا ويُمنح لنا.
تعليقات
إرسال تعليق